تعاقب التحديات يضع مستقبل المنطقة الأوروبية على مفترق طرق

تعاقب التحديات يضع مستقبل المنطقة الأوروبية على مفترق طرق

في العام 1973، أطل علينا مستشار الأمن القومي الأمريكي هنري كيسنجر في ذلك الوقت ليُطلق على هذا العام اسم "عام اليورو" ضمن واحداً من أشهر خطاباته. كان الهدف وراء هذا الخطاب هو إعادة توطيد العلاقات مع الدول الأوروبية والتأكيد على ضرورة تعزيز التعاون بين الجانبين الأوروبي والأمريكي لمواجهة التحديات القائمة في المنطقة العربية وكذلك التصدي لهيمنة الإتحاد السوفيتي في القارة الأوروبية خلال تلك الفترة. ولكن في الحقيقة لم تلق تلك الجهود طريقها إلى الواقع الفعلي. لكن من جديد، وبعد مرور عقود من الزمان، جاءت التطورات الأخيرة لتعيد إلى الأذهان التوترات التي شهدتها المنطقة خلال سبعينات القرن الماضي. وقد أجمعت الآراء بأن 2017 هو "عام اليورو" الجديد. غير أن هذه المرة تشهد غياب الجهود الأمريكية، كما أن حالة التوتر وعدم اليقين باتت تنبع بشكل كبير من داخل المنطقة نفسها.

أما الأوضاع الجيوسياسية، فهي الخطر الثانوي وتنتج من عدم استعداد روسيا للإنسحاب من جزر القرم أو الكف عن محاولات زعزعة الاستقرار داخل الأراضي الأوكرانية. مما يزيد من إحتمالات امتداد التوغل الروسي في دول أخرى من بلدان حزب الناتو على حدودها. على الجانب الأخر، جاء الملف السوري وتصاعد أزمة اللاجئين ليزيد من حدة التوتر بالمنطقة. فيما يأتي توالي الهجمات الإرهابية بمختلف أرجاء المنطقة الأوروبية ليضع ملف اللاجئين في موضع للشكوك والجدال.

ورسمياً، أقدمت المملكة المتحدة على تفعيل المادة 50 والبدء في مفاوضات الانفصال الكامل عن الإتحاد الأوروبي. وفي حين أن الخروج البريطاني هو أزمة في حد ذاته وقد يكون له العديد من التبعات السلبية على الاقتصادين البريطاني والأوروبي، إلا أنه أيضاً كان مصدراً لتصاعد المخاوف حول مستقبل المنطقة. وقد ازدادت تلك المخاوف بشكل حادٍ خاصة بعد ارتفاع شعبية التيارات السياسية المناهضة لسياسات الإتحاد الأوروبي. وهو ما خلق حالة من الغموض تسيطر على تطلعات المستقبل السياسي الأوروبي.

بريطانيا بدأت رسميًا عملية مغادرة الاتحاد الأوروبي وتواجه 5 مشكلات رئيسية

ولا تنتهي المخاطر عند ذلك الحد، فلا يمكن إغفال وقوع اليونان وغيرها من بلدان المنطقة تحت وطأة أعباء الدين، ارتفاع مستويات البطالة واتساع الفجوة بين قدرات الحكومات المحلية وما يجب أن تقوم به.

لكن يبقى الخطر الأعظم في الوقت الحالي هو الانتخابات الفرنسية والتي يراها الكثيرون بأنها ستكون بمثابة نقطة فاصلة ليس فقط في المستقبل الفرنسي أو الأوروبي، بل والعالمي أيضاً. وتشير استطلاعات الرأي إلى انحصار السباق الرئاسي بين خمسة بين المرشحين، كل منهم سيخلق حالة من الغموض تختلف عن الآخر. وعلى وجه الخصوص، في حال فوز مرشحة اليمين المتطرف مارين لو بين أو المرشح اليساري المتطرف جون ميلينشون. فإن فوز أياً منهما قد يعني نهاية عضوية فرنسا بكل من الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو. ومن هنا سوف تتزايد التساؤلات حول المصير الأوروبي.

السباق الرئاسي ينحصر بين هؤلاء.. والحذر يخيم على المستقبل الفرنسي والأوروبي

في واقع الأمر، لم تكن أياً من هذه الإحتمالات مطروحة في السابق فهي وليدة التطورات الأخيرة. لسنوات طويلة كان النموذج الأوروبي رمزاً للنجاح، التقدم والاستقرار. فقد شهدت المنطقة فترات مطولة من الرخاء، السلام والوحدة إلى أن جاءت تغيرات المشهد العالمي خلال الآونة الأخيرة لتضع قيم المنطقة أمام تحدٍ حقيقي.

لعل أيضاً من أبرز المخاطر على سلامة المنطقة هو تحذير الإدارة الروسية باستخدام كافة الأساليب الممكنة ومنها؛ استخدام القوة العسكرية أو الضغط الاقتصادي لتحقيق أهدافها السياسية.  فيما ينبع الخطر الأكبر من قادة السياسة محلياً وارتفاع حالة السخط على سياسات الإتحاد الأوروبي.

يمكن إرجاع النجاح والتقدم الهائل الذي أحرزته المنطقة خلال أوائل عهدها إلى تمسكها بالقيم والأهداف المعروفة باسم "المشروع الأوروبي" والتي تهدف إلى تعزيز وتوحيد التعاون بين بلدان المنطقة وخصيصاً ألمانيا وفرنسا بهدف تحقيق الرخاء والأمن. لكن مع مرور الوقت، فقدت تلك القيم بريقها ولم يعد هناك انتماء واضح لهذه الأهداف. ثم جاء تضارب مصالح الوحدة النقدية مع المصالح المالية للدول لتساهم في تأزم الوضع المحلي.

من هنا يمكن القول بأن صرامة المنهج الأوروبي لم تعد ملائمة للجميع، فهي بحاجة إلى المزيد من المرونة وإعادة توزيع السلطات من مؤسسات الإتحاد الأوروبي إلى الحكومات المحلية كي تختار بين من هذه السياسات ما يتلائم مع احتياجاتها المحلية. ومن جانبها، تحتاج الحكومات إلى تقديم المزيد من الإصلاحات لتحفيز النمو الاقتصادي.

في النهاية، يبقى المصير الأوروبي رهينة تطورات المنطقة خلال الفترات القادمة. ولا يمكن تجاهل التوجهات الأمريكية خاصة مع تأييد الرئيس الأمريكي ترامب للخروج البريطاني واستعداده لدعم المزيد من الدول للانفصال عن الإتحاد الأوروبي. ولكن ما يتم إغفاله هو مدى تأثير توترات الوضع الأوروبي على الاستقرار العالمي.


كما يمكنكم الإطلاع على:


large image
الندوات و الدورات القادمة
large image