جولة جديدة من حرب العملات الثالثة (النار تحت الرماد)
الاثنين 08 أغسطس 2016 03:36ممصطلح حرب العملات بالمفهوم البسيط واضح للجميع بأنه سباق تنافسي بين الدول لتخفيض قيمة عملتها لتدعم صادراتها ولكن دعونا في هذا المقال نتوسع قليلا" في شرح هذا المفهوم بما يتناسب مع حجم المقال .
تظهر حرب العملات بالنتيجة النهائية بصورة عالمية كدول تتصارع ولكن هي غالبا" تنشأ من خلل داخلي في الدول التي تشن هكذا نوع من الحروب والتي تعاني من بطالة مرتفعة ونمو منخفض ونظام مالي ضعيف . فهدف أي حكومة هو الدفع بعجلة النمو إلى الأمام ورفع معدل الناتج المحلي الإجمالي , ولما كان الناتج المحلي الإجمالي يقوم على ركائز أربعة أساسية وهي (الاستهلاك , الاستثمار , الإنفاق الحكومي , صافي الصادرات) ظهرت بذور حروب العملات . فلن ننتظر معدل استهلاك جيد من بلد يعاني من البطالة والديون ,والاستثمار وثيق الصلة بالمستهلك , والحكومات تعتمد في إنفاقها على الضرائب و الاقتراض .ففي حال لم تختار هذه الحكومات سياسة التقشف وإعادة الهيكلة للنهوض بنمو ذاتي حقيقي ستلجأ بالطبع إلى الحل الأخير لرفع معدل الناتج المحلي الإجمالي ألا وهو صافي الصادرات ,الذي يقوم على خفض قيمة العملة لتصدر بذلك أزمتها وانكماشها إلى الشركاء التجاريين وتسرق نمو بلادهم وتحقق أرباح وفائض في الاحتياطات الأجنبية , ولكن لن تتمتع بالديمومة وسينقلب السحر على الساحر , فصادراتها الرخيصة ستغلق العديد من المعامل في الدول المستوردة لهذه السلع الرخيصة ويرتفع معها معدلات البطالة وانخفاض الأجور لتفقد مع مرور الوقت تلك الصادرات , المستهلك على الضفة الأخرى من النهر ويرتد على تلك الدول التي بدأت الحرب وحش التضخم المحلي والذاتي الصنع . وهناك من يسأل, وهل تقف الدول المتعرضة للهجوم مكتوفة الأيدي ؟ .. بالطبع لن تسكت على هذا العدوان وسترد بالمثل من حيث خفض قيمة عملتها هي أيضا", أو فرض رسوم جمركية عالية على البضائع المستوردة . ليخرج من هذه الحرب خاسر وحيد ألا وهو الاقتصاد العالمي والجميع فلا يوجد رابح في حرب العملات .
وبالعودة إلى عنوان المقال ( جولة جديدة من حرب العملات الثالثة) فقد خاض العالم منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا ثلاث حروب للعملات والأخيرة مازالت مستمرة بجولاتها حتى اللحظة فهي أشبه بحلبة ملاكمة لأصحاب الوزن الثقيل, متعددة الجولات نأمل أن تنتهي بالنقاط وليس بالضربة القاضية , لذا دعونا نطلع وبشكل مختصر قدر الامكان على الحربين الأولى والثانية فالتاريخ يعيد نفسه .
الحرب الأولى : بدأت في ألمانيا 1921 قادها البنك المركزي الألماني بخفض قيمة المارك لدعم الصادرات وتوفير القطع الأجنبي لدفع تعويضات الحرب لانكلترا وفرنسا وفق معاهدة فرساي , لينتج عنها تضخم جامح ضرب ألمانيا ومن مظاهره كانت طباعة المارك حينها على وجه واحد لتوفير الحبر. وكان لابد أن يركب قطار خفض قيمة العملات كلا" من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة على التوالي لتنتهي هذه الحرب باتفاق غير رسمي ثلاثي بريطاني فرنسي أمريكي بالعودة لتقييم وتثبيت عملاتهم مقابل الذهب وبالنسبة لبعضها البعض بما لا يتنافى مع المصلحة الداخلية لكل بلد , ومن أشهر أحداث تلك الحرب هو الاثنين الأسود 28 أكتوبر 1929 ( الكساد العظيم).
الحرب الثانية : بعد الحرب العالمية الثانية قرر الحلفاء الاقتصاديين بقيادة أمريكا وبريطانيا عقد مؤتمر بريتون وودز 1944 ليقوم وبشكل رسمي النظام المالي الجديد على الذهب من خلال دولار أمريكي يمكن تحويله إلى ذهب بسعر 35$ للاونصة وإلى عملات أخرى سعر صرفها ثابت مقابل الدولار , لتشهد حقبة بريتون وودز استقرار في معدلات التضخم والبطالة والنمو . حتى أعلنت بريطانيا 1967 شرارة حرب العملات الثانية بتخفيض قيمة الإسترليني, ولم تتأخر أمريكا بالنزول إلى حلبة تخفيض العملات عدة مرات لتكون أشرس الجولات تلك التي قادها الرئيس نيكسون 1971 بإعلان إغلاقه لنافذة الذهب وحظر تحويل الدولار إلى ذهب . وبالأخص بعد هجوم الجنرال شارل ديغول 1965 على الدولار ليصفه بالمفترس المبالغ برفع قيمته ليحتل الشركات الأوروبية وقرر استبدال 150 مليون دولار من احتياطه النقدي بالذهب فكانت صفعة قاسية من قبل الجنرال شارل للدولار ورصيد أمريكا من الذهب . لتنتهي هذه الحرب الثانية عام 1987 باتفاق اللوفر وإعلان وفاة بريتون وودز وتعويم العملات لتتحمل السوق والحكومات مسؤولية تسعير العملات من خلال آلية العرض والطلب السوقي والتدخلات الحكومية عند الحاجة .
حاليا" وكنتيجة لكساد 2007 بدأت حرب العملات الثالثة والذي أعلن عن وجود مظاهرها وزير المال البرازيلي في سبتمبر 2010 , واصفا" الوضع حينها بأننا نعيش حرب عملات ثالثة حقيقة ,وبالطبع هذا الكلام لم يعجب نخب العالم الاقتصادية وطلبوا عدم استخدام هذا المصطلح المخيف واستبدال كلمة حرب العملات "بإعادة التوازن" فذاكرة الكساد العظيم تدعو للخوف من هذا المصطلح . بالفعل بدأت هذه الحرب الثالثة بقيادة الفيدرالي الأمريكي هذه المرة عام 2007 عندما حاول مواجهة الانهيار الاقتصادي بخفض معدلات الفائدة القصيرة الأجل والتي بلغت الصفر , وعندما فرغت جعبته من الحلول , كان لا بد من اختلاق حل وهمي وهو التيسير الكمي ليصفه بأنه تيسير مالي يهدف إلى تخفيض معدلات الفائدة الطويلة الأجل .وهو في الحقيقة برنامج لطباعة النقود لتحفيز النمو يهرب من خلاله الفيدرالي إلى التضخم قبل أن تلتهمه نار الانكماش ويؤجل حل مشكلة التضخم إلى المستقبل باستخدام أدوات مختلفة منها الرقابة المالية ورفع الفوائد والتي يحاول أن يقوم بها حاليا", وهو مصاب بداء التردد والخوف لأنه يستحضر ذاكرة الأجداد ويدرك بأنه سيواجه الكساد الذي حاول تفاديه 2007 ليقع حاليا" بين مطرقة التضخم وسندان الانكماش ولكن إلى متى ؟ وأنا شخصيا" أرجح بأن الفيدرالي سيكون متردد كثيرا برفع الفوائد وفي حال رفعها في ديسمبر القادم حتى لا يفقد الثقة العالمية لن يرفعها خلال 2017 بالمعدلات المبالغ فيها والمعلنة من قبل الكثير من الوكالات العالمية ولا أستبعد المناورة بين ((التيسير الكمي))من جديد والتشديد النقدي خلال السنوات القادمة.
بالفعل الفيدرالي الأمريكي هرب من الانكماش إلى التضخم والذي لم تظهر أثاره الحقيقية بوضوح حتى اللحظة وأشك بقوة مكابح العربة الأمريكية في ضبط سرعة هذا التضخم الذي سيظهر بشكل متسارع ومفاجئ على شكل فقاعات تضرب الأصول ( الأسهم,السلع, العقارات) وإدارة الفيدرالي تملك من الخبرة المحترمة وحائزي جوائز نوبل في الاقتصاد ما يكفي ليدركوا خطورة هذا التضخم ليبدأ بذلك أول عملية رفع للفائدة في ديسمبر الماضي 2015، ولكن عيونهم لا تغمض عن وحش الكساد القابع في الجانب الآخر. وهذا ما يفسر التردد الحالي في رفع الفائدة والذي انخفضت توقعاته من 4 مرات خلال هذا العام إلى مرة واحدة في ديسمبر القادم وهذا أمر طبيعي لا يدعو للاستغراب لمن يقرأ التاريخ, وتبقى مراقبة البيانات الاقتصادية هي الحل الوحيد الحالي الذي يمتلكه الفيدرالي وهو أشبه بانتظار نوم وحش الكساد للحظات كي يتمكنوا من المرور المؤقت. .
وما زاد في الأمر سوء هو أن التيسير الكمي لم يقتصر على الفيدرالي فقط بل لحق به كل الشركاء , الصين .أوروبا . اليابان ومنذ أيام قليلة جولة جديدة لبريطانيا في التيسير الكمي، بريطانيا التي قادتها نتيجة الاستفتاء المنسجمة مع النظرية العشوائية في الاقتصاد والسلوك البشري إلى انتصار المؤيدين للانفصال عن الاتحاد الأوربي وأنا شخصيا " كنت من المرجحين لحدوث هذا الانفصال وذكرت ذلك في مقالة سابقة لي بعنوان البيانات الضعيفة للوظائف الأمريكية وفرت على أعضاء الفيدرالي عناء انتظار الاستفتاء البريطاني..إلى أين؟؟
دخول دول العالم مضمار اللعبة الأمريكية (( التيسير الكمي )) أمر طبيعي جدا " وهي مجبرة على طباعة النقود الورقية لتوازي ما تركته آلة الطباعة الأمريكية من دولارات خلفها وإلا ستلجأ تلك الدول إلى إعادة تقييم عملتها لينخفض الدولار أمامها وتنخفض معه الديون الأمريكية وصادرات هذه الدول ولترتفع معدلات البطالة لديها وتدخل في حلقة مفرغة من الفوضى والعنف والحرب على الموارد , فكان قرارها هو طباعة النقود واللعب بنفس النار الأمريكية وصنع وحوش تضخمية قادمة لا محالة , لم تظهر أنيابها بعد.
خيضت في القرن العشرين حروب العملات الأولى والثانية وتم في ذلك الوقت استيعابها من قادة العالم ولكن اليوم مع نظام العولمة والمشتقات المالية والرفع المالي هل سينجح قادة الدول العشرين باستيعاب هذه الحرب سواء كانوا مجتمعين ومتفقين أو بحركات فردية هجومية من بعض الأطراف كضربة قاضية ..وهنالك عدة احتمالات لحلول قد نسمع بها مستقبلا" ونذكر منها :
أولا": هل سنعود إلى قاعدة الذهب ليتم من خلالها إعادة تقويم ((الدولار الجديد)) بسعر أعلى بكثير من السعر الحالي دعما للكتلة النقدية الورقية المتضخمة بطريقة مجنونة , أمام كمية الذهب العالمية الثابتة والتي لا يتجاوز نموها السنوي معدل 1.5% مقابل النمو العالمي الذي يزيد عن 3% ؟؟؟
ثانيا": هل سيتم اللجوء إلى صندوق الدولي لإصدار عملة ورقية جديدة مطبوعة تدعى حقوق السحب (SDR)ترتكز على سلة من عملات الاقتصاد القوية يعمل بها الصندوق الدولي على تغير أوزان بعض العملات كرفع اليوان الصيني وخفض الدولار الأمريكي وكذلك قد يسمح بدخول عملات جديدة كروبل الروسي والروبية الهندية . لتتحول بذلك تلك العملات ومن ضمنها الدولار إلى عملات تداول ضمن البلد الواحد وتقوم عملة صندوق النقد الدولية بقيادة الصفقات الخارجية و الدولية ؟؟
ثالثا": هل النظام المالي الحالي هو الصحيح ودعاة الاقتصاد الذي يدافعون بشدة عن نظريتهم الحالية بأن النمو الحقيقي يتحقق مع النظام المالي الذي يقوم على الكتلة النقدية المرنة المتوسعة (نأمل ذلك!! ).رغم إصراري الشخصي على مبدأ بأن المال الحقيقي هو الذي يحفظ الطاقة , نعم تلك الطاقة الطبيعية والبشرية التي أنتجت السلعة وهذه السلعة بدورها تكون حافظة للطاقة التي صنعتها, ولا بد للمال الذي يتم استبدال هذه السلعة به , أن يكون حافظ لنفس الكمية من الطاقة.وله قيمة تعادل قيمة الطاقة المبذولة لإنتاج هذه السلعة . وما نشهده من أوراق مالية حاليا" لا تحفظ أكثر من قيمة الطاقة التي استخدمت لصنعها !!!و هي أشبه بالمثل الشعبي المتداول لدينا ( بيع السمك في الماء) وأتمنى أن أكون مخطئ بوجهة نظري ..؟!
وأخيرا" في حال كان الاقتصاد القائم في حالة (( النار تحت الرماد)) نأمل من قادة العشرين عموما" ونخبتهم خصوصا" إيجاد الحل المناسب وتجنيب العالم نزاعات وحروب حقيقية ستفنى معها حضارات وشعوب . نتمنى أن يعم السلام كوكب الأرض المتعب وإن كانت السياسة والاقتصاد لا تعرف الأمنيات ..
ولكم جزيل الشكر
آخر وأحدث التحليلات
الندوات و الدورات القادمة
مبادئ التحليل الأساسي للأسهم الأمريكية والذهب
- الاثنين 14 أكتوبر 08:30 م
- 120 دقيقة
- أ. ميشال صليبي
مجانا عبر الانترنت
مجانا عبر الانترنت
تحليل العلاقات بين الأسواق لتحقيق تداول أفضل
- الاربعاء 23 أكتوبر 08:30 م
- 120 دقيقة
- أ. وائل مكارم
مجانا عبر الانترنت