اتفاقية بريتون وودز..هكذا ترسخت سطوة الدولار الأمريكي على حساب الإسترليني

اتفاقية بريتون وودز..هكذا ترسخت سطوة الدولار الأمريكي على حساب الإسترليني

بعد أسابيع قليلة من عملية "نورماندي" عام 1944 التي أنزلت فيها دول الحلفاء قوات على الشواطيء الفرنسية، التقى مسؤولو 44 دولة في مدينة "بريتون وودز" بولاية "نيوهامشير" الأمريكية لمناقشة الجوانب الاقتصادية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

لك أن تتخيل عزيزي القاريء أن اتفاقية "بريتون وودز" تسببت في هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي كما هو الحال الآن، بل إن الموقعين عليها كانوا في عجلة من أمرهم ولم يدروا على ماذا وقعوا.

بالطبع، كان هناك قبل الحرب العالمية الثانية بريطانيا العظمى الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس واقتصادها القوي المتجسد في جنيهات إسترلينية مهيمنة وجيوش قادرة تحمي هذا الاقتصاد وهذه الامبراطورية، وكان هناك أيضا الولايات المتحدة بدولاراتها واقتصادها الصاعد كمنافس قوي أمام نظيره البريطاني، لكن الولايات المتحدة نجحت في التفوق على بريطانيا كما سنعرف في هذا التقرير.

ربما حضر اجتماع "بريتون وودز" ممثلين عن 44 دولة، نعم، لكن على أرض الواقع، كانت المنافسة الأبرز والأهم بين مندوب أمريكا "هاري وايت" ومندوب بريطانيا "جون كينز".

لنتذكر الماضي الذي تتواجد فيه بريطانيا العظمى ومستعمراتها التي رآها رئيس وزراء بريطانيا آنذاك "وينستون تشيرشل" كضرورة اقتصادية، في حين كانت أمريكا ترى أثناء الاتفاقية أن لندن تدافع عن وهم زائف وأمجاد عفا عليها الزمن.

رغم التنافس والتناحر خلال اجتماعات "بريتون وودز"، إلا أن بريطانيا كان صوتها ضعيفا بعض الشيء أمام أمريكا بسبب الديون التي أثقلت كاهل لندن بعد الحرب العالمية الثانية.

من بين الهزائم التي تلقتها بريطانيا في تلك الاجتماعات عدم الحصول على قرض بدون فوائد، وأيضا خسارة تواجد مؤسستين ماليتين هما صندوق النقد والبنك الدوليين على أراضي بريطانية، حيث بعد الاتفاق على تأسيسهما، أصرت أمريكا على تواجدهما على أراضيها.

وبدا للجميع بما لا يدع مجالا للشك أن بريطانيا خسرت واقتصادها يتراجع بسبب الديون أمام أمريكا القوة العالمية الصاعدة الجديدة.

خدعة التوقيع

كانت المفاوضات تدور على وسيلة التبادل التجاري والاقتصادي الدولي بعد الحرب، واتفق الحضور على اعتبار (الذهب) معياراً وأساسا للتبادل الدولي، لكن قبل التوقيع، أخذ مندوب أمريكا "وايت" المسودة النهائية للاتفاق وسهر طوال ليلة التوقيع ليستبدل جميع العبارات التي تعتبر الذهب معياراً لتصبح "الذهب والدولار الأمريكي" معياراً.

ولم يتم عرض التعديلات أو المسودة النهائية بشكلها الجديدة أمام لجنة منبثقة عن الاجتماع، ووقع الحضور بمن فيهم مندوب بريطانيا "كينز" على الاتفاقية، وهكذا صعد الدولار على جثة الإسترليني وتعزز موقفه كوسيلة للتبادل التجاري الدولي.

وبعد هذا الخداع بأشهر، قال "كينز" إن وفده كان مدفوعا للتوقيع دون قراءة أي نسخة من المسودة النهائية.

النتيجة

قبل الاتفاقية، كان الإسترليني يهيمن على النظام النقدي على مدار النصف الأول من القرن العشرين وكان يعد العملة الاحتياطية الأولى متفوقا على الدولار، وشكل الإسترليني نحو 87% من إجمالي الاحتياطيات الدولية حتى عام 1947.

بعد "بريتون وودز"، أصبحت الأمور تميل بقوة نحو الدولار الأمريكي الذي تجاوز الإسترليني عام 1955 ليصبح العملة الاحتياطي الأولى في العالم.

كل ذلك بسبب خدعة منتصف الليل، هل تتخيل عزيزي القاريء أن سبب هيمنة الدولار على النظام النقدي العالمي حالياً كان بسبب أن مندوب بريطانيا لم يطلع على الاتفاقية في نصها النهائي؟


large image
الندوات و الدورات القادمة
large image