لماذا قامت وزارة الخزانة الأمريكية بأكبر عملية إعادة شراء ديون في تاريخها؟

لماذا قامت وزارة الخزانة الأمريكية بأكبر عملية إعادة شراء ديون في تاريخها؟
السندات

في خطوة تُشير إلى تحول كبير في الاستراتيجية المالية للحكومة الفيدرالية، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية يوم الثلاثاء عن إعادة شراء ديون بقيمة 10 مليارات دولار من سندات الخزانة، وهي أكبر عملية من نوعها في التاريخ الأمريكي.

ووفقًا للبيان الرسمي الصادر عن مكتب الخدمة المالية، تمت عملية إعادة الشراء في الثالث من يونيو 2025، وتم الانتهاء من التسوية في اليوم التالي. وقد قبلت وزارة الخزانة المبلغ الكامل من الحد الأقصى المستهدف للعملية، البالغ 10 مليارات دولار، من إجمالي 22.87 مليار دولار من القيمة الاسمية التي عرضها المشاركون في السوق.

تأتي هذه الخطوة غير المسبوقة في لحظة حاسمة للسياسة المالية الأمريكية، وقد تمثل نهجًا جديدًا في إدارة عبء الدين القومي الذي تجاوز 34 تريليون دولار، وسط ظروف اقتصادية متغيرة وارتفاع أسعار الفائدة وتقلبات في ثقة المستثمرين العالميين.

تحوّل استراتيجي في الإدارة المالية

لم تكن عمليات إعادة شراء سندات الخزانة أداة منتظمة في أدوات الحكومة الأمريكية لسنوات عديدة. وقد استُخدمت تاريخيًا على نطاق ضيق، إما خلال فترات الفائض في الميزانية أو لمعالجة مشكلات السيولة في السوق الثانوية.

إلا أن حجم هذه العملية الأخيرة غير مسبوق. وتشير بيانات وزارة الخزانة إلى أن آخر مرة تم فيها اقتراح عملية إعادة شراء بهذا الحجم تعود إلى أوائل العقد الأول من الألفية، وكانت حينها تستخدم كجزء من استراتيجية أوسع لإدارة الدين. أما هذه الخطوة الأخيرة، فيُنظر إليها على أنها استباقية وتاريخية.

وقال متحدث باسم وزارة الخزانة لشبكة إيه بي سي نيوز: "نحن ملتزمون بإدارة مالية البلاد بمرونة على المدى القصير واستدامة على المدى الطويل. وتأتي هذه العملية ضمن استراتيجيتنا لإدارة الدين من أجل ضمان سلاسة العمليات السوقية وتقليل تكاليف الاقتراض المستقبلية".

ردود الأفعال في الأسواق وتداعيات محتملة

أثّرت هذه الأنباء مباشرة في أسواق السندات والأسهم. إذ تراجعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية، التي كانت قد بلغت مستويات مرتفعة بفعل الضغوط التضخمية وتوقعات رفع أسعار الفائدة من الاحتياطي الفيدرالي. وانخفض العائد على سندات الخزانة لأجل 10 سنوات إلى 4.35% بعد أن كان عند 4.42% في وقت سابق من الأسبوع.

أما الأسواق المالية، فقد أبدت تفاؤلاً حذرًا، حيث فُسرت الخطوة على أنها إشارة إلى أن وزارة الخزانة تسعى بنشاط إلى تحسين هيكل ديونها واستعدادًا لاحتمال استقرار السياسة النقدية. وارتفع مؤشر S&P 500 بنسبة 0.6% خلال اليوم، مدفوعًا بمكاسب في قطاعي المال والمرافق.

ويرى خبراء الاقتصاد أن لهذه الخطوة عدة أهداف؛ منها تقاعد الأوراق المالية القديمة والأقل سيولة لتحسين هيكل محفظة الدين، وأيضًا للمساعدة في تقليص تكاليف الاقتراض قبل مزادات السندات المقررة لاحقًا هذا العام.

وقالت الدكتورة إلين باركر، كبيرة الاقتصاديين في معهد بروكنغز: "هناك منطق اقتصادي كلي واضح وراء هذه الخطوة. ومع تلميح الاحتياطي الفيدرالي إلى إمكانية التوقف المؤقت عن رفع الفائدة، فإن وزارة الخزانة ربما تسعى لتوفير هامش حركة في السوق الثانوية وتقليل التزاحم الناتج عن إصدارات قصيرة الأجل".

الأرقام الرئيسية للعملية

استهدفت عملية 3 يونيو أوراقًا مالية تستحق بين 15 يوليو 2025 و31 مايو 2027. ومن بين 40 إصدارًا مؤهلاً، تم قبول 22 إصدارًا ضمن عملية إعادة الشراء، ما يُظهر مشاركة قوية من السوق واستعداد المستثمرين المؤسسيين للتخارج من سندات ذات أجل متوسط.

أبرز الأرقام من التقرير الرسمي:

  • إجمالي القيمة الاسمية المعروضة: 22.87 مليار دولار
  • إجمالي القيمة المقبولة: 10 مليارات دولار
  • عدد الإصدارات المؤهلة: 40
  • عدد الإصدارات المقبولة: 22

وأفادت التقارير أن المشاركين في السوق كانوا عدوانيين في عروضهم، ما يشير إلى أن العديد من المستثمرين رأوا في هذه العملية فرصة لإعادة تشكيل محافظهم الاستثمارية وفقًا للمتغيرات الاقتصادية.

السياق المالي الأوسع

تأتي هذه الخطوة في ظل استمرار النقاشات في الكونغرس حول الإنفاق الفيدرالي وسقف الدين واستدامة السياسة المالية الأمريكية على المدى الطويل. ورغم أن تأثير العملية على إجمالي الدين القومي قد لا يكون كبيرًا، فإنها تمثل إشارة قوية على الإدارة الفعالة للدين.

ويُتوقع أن تتجاوز مدفوعات الفائدة على الدين الأمريكي تريليون دولار سنويًا بحلول عام 2026 إذا استمرت الاتجاهات الحالية، مما يثير قلقًا بين صانعي السياسات والمستثمرين بشأن التوازن الهيكلي في الميزانية الفيدرالية.

وقال مارتن كيلر، مسؤول سابق في وزارة الخزانة: "الأمر لا يتعلق فقط بخفض أرقام على جدول بيانات. بل هو خطوة نحو استعادة الثقة في قدرة الحكومة على إدارة التزاماتها وضمان كفاءة عمل الأسواق المالية".

ماذا بعد؟

قد تكون عملية الثلاثاء مجرد بداية. فبحسب مصادر في وزارة الخزانة، تُجرى حاليًا تقييمات لعمليات إعادة شراء إضافية في المستقبل، بحسب ظروف السوق والتطورات المالية. إلا أن الوزارة لم تؤكد بعد ما إذا كانت هذه الخطوات ستصبح جزءًا منتظمًا من استراتيجيتها لإدارة الدين.

مع ذلك، يحذر المحللون الماليون من الإفراط في تفسير الخطوة.

وقال جيمي ليو، المدير التنفيذي في مجموعة "كابيتال هورايزونز": "إنها خطوة مهمة، بلا شك. لكن ما لم تتبعها سلسلة من الإجراءات المماثلة أو خطة هيكلية أشمل، فقد لا تُحدث فرقًا كبيرًا في مسار الدين على المدى القصير".

ومع ذلك، فإن القوة الرمزية للعملية لا ينبغي التقليل من شأنها، خصوصًا في ظل ترقب الأسواق المحلية والدولية للإشارات الاقتصادية الأمريكية.

التأثير العالمي وثقة المستثمرين

لاحظ حاملو السندات الدوليون، بمن فيهم البنوك المركزية وصناديق الثروة السيادية، هذه الخطوة باهتمام. إذ أن أكثر من 30% من الدين الأمريكي تحمله جهات أجنبية، من بينها الصين واليابان. وتُعزز عملية الشراء هذه نية الولايات المتحدة في الحفاظ على استقرار السوق.

كما قد تساعد هذه الخطوة في تهدئة المخاوف المتزايدة بشأن ما يُعرف بـ"تسليح الدولار" واتجاه بعض الدول إلى تنويع احتياطاتها بعيدًا عن الأصول الأمريكية. ومن خلال إظهار نهج نشط في إدارة الدين، تُعيد وزارة الخزانة تأكيد دورها كراعٍ مسؤول للنظام المالي العالمي.

وقال فريد عكاشة، محلل استراتيجيات الأسواق الدولية: "الاستقرار هو عملة الثقة، وهذه العملية كانت خطوة ذكية لتعزيز تلك الثقة".


large image
الندوات و الدورات القادمة
large image