حروب الأفيون والحرب التجارية: التاريخ يعيد نفسه بالنسبة للصين

لطالما كانت التجارة الدولية ساحةً للصراعات الاقتصادية والسياسية، لكن ما حدث في منتصف القرن التاسع عشر بين الصين وبريطانيا تجاوز مجرد الخلافات التجارية، ليصل إلى حد الحرب، وسُجّل في التاريخ تحت اسم "حروب الأفيون"؛ وهي صراعات دموية كشفت كيف يمكن للمصالح الاقتصادية أن تدوس على سيادة الدول وقيمها الأخلاقية.
خلفية تاريخية: إمبراطورية غنية ومنغلقة
في بدايات القرن التاسع عشر، كانت الصين تحت حكم أسرة تشينغ، وتتمتع باقتصاد قوي قائم على تصدير الشاي والحرير والخزف. كانت التجارة الصينية مع بريطانيا قائمة على مبدأ "الفائض التجاري" لصالح الصين، إذ كانت بريطانيا تستورد البضائع الصينية لكنها لا تجد ما تصدره للصين بالمقابل.
الأفيون: تجارة رابحة وسلاح فتاك
لحل هذا الاختلال التجاري، لجأ البريطانيون إلى تصدير الأفيون – وهو مخدر مستخلص من نبات الخشخاش – إلى الصين من مستعمراتهم في الهند البريطانية. وبحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كان الملايين من الصينيين قد أدمنوا هذه المادة، مما أدى إلى انهيار اجتماعي وصحي واقتصادي واسع.
ورغم الحظر الذي فرضته الحكومة الصينية على تجارة وتعاطي الأفيون، وقرارات الإمبراطور الشديدة بمصادرة المخدرات وحرقها، استمرت بريطانيا في تهريب الأفيون بالقوة، ما أدى إلى تصاعد التوترات بين الجانبين.
تقول دائرة المعارف البريطانية إن حروب الأفيون اندلعت إثر محاولات صينية للتصدي لتجارة الأفيون التي كان يمارسها تجار غربيون (بريطانيون أساسا) بشكل غير مشروع بين الهند والصين منذ القرن الثامن عشر والتي نمت بشكل كبير منذ عام 1820.
وقد أدى انتشار الأفيون في الصين إلى الإدمان وظهور مشكلات اجتماعية واقتصادية خطيرة فقررت الحكومة الصينية عام 1839 مصادرة وتدمير نحو 1400 طن من هذا المخدر الذي كان التجار البريطانيون يخزنونه في اقليم غوانغزو.
وأدى ذلك إلى تصاعد التوتر بين الجانبين وفي يوليو/ تموز عام 1839 قام بحار بريطاني بقتل قروي صيني وقد رفضت الحكومة البريطانية حينئذ مثول أحد رعاياها أمام محاكم صينية.
الحرب الأولى (1839 – 1842): بداية التدخل العسكري
اندلعت الحرب الأولى عندما قام المفوض الإمبراطوري الصيني لين تسه شو بتدمير كميات كبيرة من الأفيون البريطاني في ميناء قوانغتشو. وردًا على ذلك، شنت بريطانيا هجومًا عسكريًا مستخدمة تفوقها البحري والتكنولوجي.
انتهت الحرب بتوقيع معاهدة نانجينغ عام 1842، والتي كانت مجحفة بحق الصين، حيث اضطرت للتنازل عن جزيرة هونغ كونغ لبريطانيا، وفتح خمسة موانئ أمام التجارة الغربية، ودفع تعويضات مالية ضخمة.
الحرب الثانية (1856 – 1860): تكريس الهيمنة الغربية
لم تلبث الأمور أن هدأت حتى اندلعت الحرب الثانية، بمشاركة فرنسا إلى جانب بريطانيا، بذريعة اعتداء السلطات الصينية على سفينة تجارية بريطانية. انتهت الحرب بـمعاهدة تيانجين، ثم اتفاقية بكين، والتي زادت من إذلال الصين، وأجبرتها على إضفاء الشرعية على تجارة الأفيون، وفتح مزيد من الموانئ، والسماح للمبشرين الغربيين بالعمل داخل البلاد.
نتائج كارثية
تركت حروب الأفيون أثرًا بالغًا في التاريخ الصيني، إذ اعتبرها الصينيون بداية "قرن الإذلال" الذي عانوا فيه من الاحتلال، والضعف، والتدخلات الأجنبية. كما كشفت الحروب عن استعداد القوى الغربية لاستخدام القوة العسكرية لحماية مصالحها الاقتصادية، حتى وإن تعارضت مع القيم الأخلاقية والإنسانية.
إرث دائم
لا تزال حروب الأفيون تُدرّس اليوم باعتبارها نقطة تحول في العلاقات الدولية، ونموذجًا على التقاء الإمبريالية بالتجارة. وقد بقيت ذكراها حاضرة في الوعي الصيني، تُوظف سياسيًا وثقافيًا في الخطاب الرسمي للتأكيد على أهمية السيادة الوطنية.
ليست كل الحروب تُخاض بالسلاح وحده، أحيانًا تكون البضاعة أفتك من المدافع. حروب الأفيون كانت شهادة صارخة على ذلك، حين تحوّلت تجارة المخدرات إلى أداة استعمار، ودُفعت أمة بأكملها نحو الانحدار من أجل مصالح شركات وشخصيات نافذة.
الحرب التجارية الحديثة
منذ ولايته الأولى، يستهدف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصين بالذات من أجل تقليل ما وصفه بالعجز التجاري الهائل الذي يعد في صالح الصين ويرى ذلك ممارسات تجارية غير عادلة.
وعليه، قرر ترامب استهداف الصين برسوم جمركية هائلة على البضائع التي تستوردها الولايات المتحدة من بكين.
وفي ولايته الثانية، بلغ الأمر ذروته بإعلان إدارة ترامب فرض رسوم جمركية تصل إلى 145% على الواردات من الصين، وقامت بكين بالرد.
لكن بعد محادثات وصفت بالبناءة بين البلدين في سويسرا، تم الإعلان أمس الأحد عن التوصل إلى اتفاق تجاري ينزع فتيل حرب الرسوم الجمركية.
وقال وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسينت إن المحادثات مع الصين كانت "مثمرة للغاية"، مضيفًا أن الجانبين اتفقا على خفض الرسوم الجمركية المتبادلة بنسبة 115% لمدة 90 يوماً.
وبهذا، تُخفض الرسوم الأمريكية على السلع الصينية إلى 30%، مقابل 10% للرسوم الصينية على الواردات الأمريكية. وأضاف بيسينت خلال مقابلة مع قناة سي إن بي سي أنه يتوقع لقاء وفد من بكين "في الأسابيع القليلة المقبلة" للتوصل إلى اتفاق أشمل.