profile photo

خلال عام 2020، قامت البنوك المركزية والحكومات في العالم بإقرار خطط تحفيز هائلة لم يشهدها التاريخ سابقاً، للتصدّي لآثار جائحة كورونا التي أدخلت الاقتصاد العالمي في أسوأ ظروفه منذ الحرب العالمية الثانية. وفعلاً، استطاعت خطط التحفيز النقدي من البنوك المركزية والتحفيز المالي من العديد من الحكومات في العالم أن تنقذ الاقتصاد الدولي وتمنع انزلاقه في كساد كان ليكون أسوأ من الكساد العظيم الشهير ثلاثينات القرن الماضي.

لكن، لكل سياسة من سياسات البنوك المركزية آثار جانبية، قد تكون أحياناً غير مرغوبة، مثل التباطؤ الاقتصادي عندما تشدد البنوك المركزية سياساتها النقدية، ونشوء الفقاعات الاقتصادية وارتفاع التضخّم مع سياسات التحفيز والتسهيل الائتماني.

ومع توجّه البنوك المركزية عام 2020 لتحفيزات هائلة استمرّت في الدول العظمى خلال النصف الأوّل من عام 2021، بدأت أسعار الأصول بالارتفاع، وشهدنا ارتفاعاً في معدّلات التضخّم. ارتفع معدّل التضخّم في الولايات المتحدّة الأمريكية نهاية الربع الثاني من 2021 إلى5.4%، كما ارتفع معدّل التضخّم في بريطانيا نحو 2.5%، وهذه المستويات لم نشهد لها مثيل منذ سنوات عديدة.

بالنظر إلى أسعار السلع، سنجد ارتفاعاً كبيراً حصل خلال الفترة التي بدأت منذ شهر أبريل 2020 حتى نهاية الربع الثاني عام 2021، حيث ارتفع مؤشر GSCI للسلع من 1349 إلى 2597 نقطة، أي بارتفاع تبلغ نسبته أكثر من 92%.

الارتفاع في الأسعار يعبّر عن نمو اقتصادي، وإنفاق جيد لدى المستهلكين. لذلك، نجد بأن البنوك المركزية في الدول العظمى تفضّل معدّلات تضخّم قرب 2%، وهذه النسبة التي تعبّر عن "استقرار الأسعار" و "جودة الإنفاق الاستهلاكي". بالتالي، إذا انخفض التضخّم ما دون هذا المستوى كثيراً، كما حصل عام 2020، فذلك يكون مرتبطاً في ضعف اقتصادي. لكن، إذا ارتفع فوق 2% بشكل كبير، سيهدد ذلك القدرة الشرائية للنقد، بل وأن ارتفاع الدخل قد لا يوازي الارتفاع بالأسعار، مما يتسبب بانخفاض الطلب.

لندخل الآن بعد هذه المقدّمة في صلب الموضوع، لماذا يجب أن تحمي أموالك مما هو قادم للاقتصاد العالمي؟

إذا كان التضخّم ضمن نطاقات البنوك المركزية المرغوبة، فعلى الأرجح يكون ارتفاع الأسعار نتيجة زيادة الإنفاق الاستهلاكي مرافقاً لزيادة في الإنتاج، في نفس الوقت، يكون ارتفاع الدخل مناسباً لارتفاع الأسعار.

لكن، إذا بدأت معدّلات التضخّم ترتفع لمستويات أعلى من أهداف البنوك المركزية (في الغالب بين 2% و3%)، هنا قد نرى بأن ارتفاع التضخّم قد يفوق نمو الدخل، وهذا يسفر عن انخفاض كميّة السلع التي يقوم المستهلك بشرائها، وبالتالي سينخفض الإنتاج بالتبعية. لكن عندما ننظر إلى الناتج المحلي الإجمالي، سنلاحظ بأنه مستمر لأن "قيمة" الإنفاق ارتفعت أو استقرّت، وهنا تكمن المشكلة.

في حال ارتفع التضخّم كما يحصل الآن في الولايات المتحدّة (حول 5.4% لشهر يونيو 2021)، فهذا لا يعني بأن كل السلع ارتفعت أسعارها بهذه النسبة، بل في تقرير التضخّم لشهر يونيو 2021، ارتفعت أسعار وقود البنزين 45.1%، وارتفع سعر الديزل 45.2%، كما صعدت تكاليف خدمات الغاز 15.6%، إلى جانب ارتفاع أسعار خدمات النقل 10.4%. كما شهدنا ارتفاعاً حاداً بأسعار السيارات المستعملة والإيجار والمنازل. بالتالي، قيمة 5.4% لا تنطبق على إحساس المستهلكين!

عندما ترتفع الأسعار بهذه القيم الكبيرة، سيقل عدد السلع التي يقوم المستهلك بشرائها، وبالتبعية سيتبعها انخفاض الإنتاج، لكن للأسف، لن يظهر ذلك على الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدّة. يتوقّع البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نمو الاقتصاد الأمريكي هذه السنة 2021 بحوالي 7%، لكن هل سيكون المستهلك والمستثمر راضين عن هذا النمو مع استمرار ارتفاع الأسعار وانخفاض الإنتاج؟ بالتأكيد لا! حيث أن معدّل البطالة ما زال مرتفع، وكمية السلع (وليس قيمة السلع) التي يتم شراؤها أقل.

لذلك، لا يوجد حل لهذه المعضلة إلا من خلال حماية الأموال. لو كنت تملك 1000 دولار قبل 12 شهراً في الولايات المتحدّة، فقدرتها الشرائية الآن أصبحت وكأنها 946 دولار فقط! حتى لو أن المبلغ الموجود لديك اليوم هو نفسه (1000 دولار). طبعاً هذه القيمة باعتماد قيمة التضخّم بحسب مؤشر أسعار المستهلكين. لكن، ماذا لو كنت تستعمل المواصلات بشكل مكثّف يومياً وتنفق الـ1000 دولار فقط على المواصلات؟ هنا سيكون الانخفاض في القدرة الشرائية لما تملك 10.4%! أن أنك الآن تملك نقوداً قيمتها الشرائية مقارنة بـ12 شهراً سابقاً أٌقل من 900 دولار!

 

ماذا ينتظر الاقتصاد العالمي؟

البنوك المركزية في الدول العظمى، مثل البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا المركزي وكذلك الفيدرالي الأمريكي والبنك الوطني السويسري، إلى جانب بنك اليابان المركزي، كلها قد تستمر بخطط التحفيز الهائلة. حتى لو تم خفض برامج شراء الأصول (التيسير النقدي والكمي) إلا أن أسعار الفائدة ستبقى منخفضة لفترة طويلة. وخطط التحفيز كلها داعمة لاستمرار ارتفاع التضخّم.

حتى البنوك المركزية التي قامت بتقليص سياسات التحفيز، مثل الاحتياطي النيوزلندي وبنك الشعب الصيني وبنك كندا المركزي، لا نستطيع أن نقول بأنها تبنّت سياسة تشديد نقدي، فسياساتها النقدية ما زالت تعتبر تحفيزية، وما قامت به تلك البنوك مجرّد تقليص مقدار هذا التحفيز.

من هنا، الاقتصاد العالمي على موعد مع بقاء التضخّم مرتفعاً لفترة طويلة من الزمن، وحتى لو شهدنا انخفاضاً في التضخّم كما يتوقّع الفيدرالي الأمريكي، فهذا الانخفاض لا يعني بأن الأسعار ستعود إلى سابق عهدها، لكنها ستبقى مرتفعة، فانخفاض الأسعار يتطلّب تضخّماً سالباً، وهذا غير مرجّح حصوله عالمياً.

فينتظر العالم الآن مرحلة من الفقاعات السعرية التي سوف تؤثّر على كل شخص على هذه المعمورة، وبالتالي يجب أن نبحث عن حلول لهذه المعضلة.

 

ماذا يجب أن تفعل حتى تحمي نفسك من الانخفاض في القدرة الشرائية للنقد؟

 الاستثمار ! نعم هو الحل الوحيد في الظروف الحالية. أغلب البنوك في الدول العظمى لا تقدّم فوائد إيداع للنقد تفوق الارتفاع المحتمل في التضخّم، بل أن الدول الناشئة من غير المحتمل أن تقدّم فيها البنوك عوائد وفوائد أعلى من التضخّم. بالنسبة للسندات، فنلاحظ بأن الدول ذات التصنيف الائتماني المرتفع عوائد السندات فيها أيضاً أٌقل من التضخّم.

إذن، الاستثمار هو الحل الأمثل لحماية النقد والأملاك المالية من مخاطر انخفاض القدرة الشرائية للنقد. وفيما يلي بعض الأصول التي قد تكون مفيدة للحماية من مخاطر التضخّم:

1-   الذهب

يعتبر الذهب تغطية كلاسيكية للتضخّم، وقد جرت العادة أن يتم استخدام الذهب للحماية من انخفاض القدرة الشرائية للنقد. لكن، الذهب وحده ليس قادر على تغطية "كل" مخاطر انخفاض القدرة الشرائية للنقد، فالتاريخ يشير لنا بأن ارتفاع أسعار الذهب النسبي (%) يقل عن معدّل ارتفاع التضخّم لسنوات عديدة.

2-   الأسهم

بحسب دراسة لمجموعة سيتي جروب، تم اقتراح مؤشر ستاندرد آند بورز 500 على أنه أحد أفضل الأدوات الممكن استخدامها للحماية من مخاطر التضخّم، حيث أن ارتفاع قيمة مؤشر ستاندرد آند بورز النسبية فاقت الارتفاع في معدّل التضخّم عالمياً طوال السنوات الماضية. لذلك، يعتبر الاستثمار في الأسهم الأمريكية أحد الخيارات الجيدة لزيادة الدخل وزيادة الأموال بما يزيد عن الانخفاض في القدرة الشرائية للنقد.

3-   النفط

يعتبر ارتفاع أسعار النفط وأدوات الطاقة أحد أهم المؤثرات في التضخّم عالمياً، وارتفاع الأسعار يعتبر مسبباً أساسي لانخفاض القدرة الشرائية للمستهلك. لذلك، من الجيد البحث عن مناطق جيدة للشراء للنفط، عندما يكون هنالك توقّعات بارتفاع الأسعار. فيتم الاستفادة من ارتفاع النفط لتقليص تأثير ارتفاع الأسعار على القدرة الشرائية للنقد.

4-    أزواج العملات

تتقلّب أسعار صرف العملات كثيراً، ولو نظرنا على سبيل المثال لا الحصر على الليرة التركية، سنجد بأن سعر صرف الليرة التركية انخفض مقابل الدولار بنسبة تزيد عن 17% خلال النصف الأوّل من عام 2020. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني بأنه لو كان هنالك مستثمر أجنبي (مثلاً من الدول العربية) يستثمر في تركيا وحقق عائداً عل الاستثمار يقل عن 17% خلال 6 أشهر، فقد خرج بصافي خسارة لأن سعر صرف الليرة التركية انخفض مقابل الدولار بأكثر من 17%. طبعاً آخذين بعين الاعتبار بأن العديد من العملات في الدول العربية مرتبطة بالدولار أو حركتها قليلة مقابل العملة الخضراء.

ليس فقط انخفاض أسعار العملات يتسبب في انخفاض الربحية، بل أن ارتفاع أسعار الصرف يؤثّر أيضاً بأسعار السلع المستوردة. على سبيل المثال، ارتفاع سعر صرف الين الياباني مقابل عملة دولة ما، سيرفع من سعر السيارات اليابانية في تلك الدولة.

بالتالي، يجب على كل مستثمر أن يقوم بتغطية مخاطر تقلّب أسعار الصرف للعملات الأجنبية، في حال كان له تعاملات دولية في استثماراته.

 

أخيراً، يجب أن نعلم بأن كل استثمار له مخاطر، وحتى محاولة تغطية مخاطر انخفاض القدرة الشرائية للنقد بسبب ارتفاع التضخّم لها مخاطر استثمارية. لكن، بالنظر إلى المخاطر التي من المحتمل حصولها في الاقتصاد الدولي مع استمرار ارتفاع الأسعار، فمخاطر الاستثمار قد لا تكون مانعاً لأن نبدأ استثماراتنا الآن، ودراسة أحد أساليب إدارة المخاطر لتقليص المخاطر المترتّبة على الاستثمارات.

 

 

 

 

الندوات و الدورات القادمة

أ. محمد صلاح
أ. محمد صلاح

السلوك السعرى وأسرار الشموع اليابانية

  • الاثنين 06 مايو 08:30 م
  • 120 دقيقة
سجل اﻵن

مجانا عبر الانترنت

أ. ملاك الحسيني
أ. ملاك الحسيني

كيف تبدأ التداول في سوق العملات وعقود الفروقات CFDs

  • الخميس 09 مايو 08:30 م
  • 120 دقيقة
سجل اﻵن

مجانا عبر الانترنت

أ. وائل مكارم
أ. وائل مكارم

تقنيات واستراتيجيات فنية لتداول الأسواق المالية

  • الاربعاء 15 مايو 08:30 م
  • 120 دقيقة
سجل اﻵن

مجانا عبر الانترنت

large image