الفائدة السلبية.. سلاح ذو حدين يتحكم في مصير اقتصادات العالم!

الفائدة السلبية.. سلاح ذو حدين يتحكم في مصير اقتصادات العالم!

في مطلع العام 2015، فاجأ البنك الوطني السويسري الأسواق العالمية بإلإعلان عن خفض الفائدة إلى النطاق السلبي، مما يعني أن أي شخص يرغب في الاحتفاظ بإيداعاته المقومة بالفرنك يجب عليه دفع رسوم مقابل هذه الايداعات. ولم تنزلق العائدات السويسرية إلى النطاق السلبي فحسب بل تبعتها كل من العائدات الألمانية والفرنسية. كذلك تراجع معدل الفائدة بين البنوك الأوروبية لليلة الواحدة أو الـ "Euribor" دون المستويات الصفرية، بينما كان يتراوح في السابق قرابة 2%. وبنهاية الربع الأول من 2015، أظهرت بعض إحصائيات بلومبرج أن ما يعادل 31% من إجمالي عائدات السندات السيادية بمنطقة اليورو قد تراجعت إلى المستويات السلبية. كما لعب التوقيت دوراً في مفاجأة الأسواق، حيث جاءت تلك القرارات بعد 6 أعوام كاملة من محاولات التعافي وسط الجهود المكثفة لدعم الاقتصاد منها الخفض المتواصل للفائدة، السماح بارتفاع مستويات عجز الموازنة لزيادة الإنفاق وكذلك ضخ الأموال إلى الاقتصاد.

وتفيد النظريات التقليدية للاقتصاد أن الزيادة الهائلة في معدل الإنفاق تزامناً مع مستويات الفائدة المنخفضة من الطبيعي أن ينتج عنها طفرة في النمو من خلال زيادة الأجور وارتفاع الأسعار وهو ما يؤدي في النهاية إلى رفع معدل الفائدة. كما تفترض تلك النظريات أن معدلات الفائدة لا يمكن أن تستقر عند مستويات منخفضة لفترة مطولة من الوقت، فمثل هذا الأمر قد يدفع المستثمرين إلى إدخار أموالهم خارج البنوك مما يتسبب في وجود عجز بسيولة البنوك ويؤدي إلى انهيار النظام المالي بالدولة. ولكن جاءت التطورات الأخيرة لتتحدى تلك النظريات وترفع حدة الجدال حول مدى استدامة تلك الانخفاضات، وهل هي مجرد ظاهرة مؤقتة أم بداية لواقع جديد.

هناك بعض العوامل التي توفر بعض التفسيرات المحتملة لمثل هذه الأوضاع، أهمها: التغيرات الديموجرافية، أعباء الدين وغموض تداعيات السياسة النقدية وخصيصاً برامج التيسير النقدي.

التغيرات الديمجرافية.

 فإن ارتفاع متوسط عمر الفرد بالدولة سوف يؤدي إلى انخفاض معدل الفائدة، حيث أن تزايد أعداد المتقاعدين يعني ارتفاع حجم الإدخار. وهنا قد يقبل المدخرين بالفائدة السلبية كرسوم إدخار لأموالهم. وبالنظر إلى حقيقة أن التغيرات الديمفجرافية تستغرق سنوات طويلة حتى تعكس اتجاهها، فإن هذه المشكلة تعتبر طويلة المدى، مما يعني أن معدلات الفائدة قد تستقر عند مستويات منخفضة لسنوات وسنوات قبل العودة إلى الارتفاع مرة أخرى.

أعباء الدين. 

يتجاوز حجم الدين مستويات محددة في بعض الأحيان، ويصبح عبئاً على الاقتصاد وقد يدفع به إلى الانكماش. فمن الضروري أن يتم سداد الدين حتى يتم توجيه تلك الأموال مجدداً إلى الاستثمار والاستهلاك. أما الآن، فإن مستويات الدين غير المسبوقة خلقت عقبة اقتصادية تتطلب سياسات استثنائية (من بينها الفائدة السلبية) بهدف تحفيز الإقتراض والإنفاق. فقد أصبحت الحكومات والشعوب مثقلة بالديون، مما ينعكس بدوره من خلال ضعف معدلات الطلب، تباطؤ النمو وانخفاض سعر الفائدة. الوضع الذي يرى خبراء الاقتصاد أنه أصبح خلل هيكلي في اقتصادات العالم ولا ينتمي إلى دورة الأعمال بشئ.

غموض تداعيات السياسة النقدية.

فبالنظر من منظور مختلف، يمكنك أن تصدق أن السياسات التوسعية وعلى الأخص برامج التيسير النقدي ما هي إلا سياسات انكماشية. حين يقدم البنك المركزي على طباعة النقود بهدف شراء السندات، فإنه يقوم بزيادة المخزون النقدي لدى البنوك التجارية بهدف تشجيع الإقراض وبالتالي الاستثمار. إلا أنه استناداً على التجارب الواقعية إضافةً إلى النتائج غير المتوقعة لتلك الآلية فقد تؤدي إلى نتائج عكسية، حيث من الممكن أن تحجم الشركات عن الاستثمار بالرغم من هذه التسهيلات.

ولأن ما يفعله صناع القرار خلال الفترات الحالية ما هو إلا ارتجال، بات من الصعب توقع الخطوات المقبلة. وهو ما يخلق حالة من عدم اليقين وبالتالي يشكل عبئاً على الاستثمار بوجهٍ عام. وينتج عن ذلك ارتفاع المخزون لدى البنوك، فبعد أن كان المخزون النقدي الفائض يتراوح قرابة 3% من إجمالي المخزون، ففي الأوقات الحالية ارتفع المخزون إلى 95% في الولايات المتحدة على سبيل المثال. أي أنه لا يوجد حافز لتقديم فائدة مرتفعة وجذب المزيد من الأموال إلى البنوك.

يمكن التأكد من هذه النظرية الرأسمالية من خلال النظر إلى زيادة نسب الأرباح وإعادة شراء الأسهم (إعادة سعر السهم إلى المستثمر) للشركات الأمريكية. فقد تجاوزت تلك المبالغ إجمالي الإنفاق الرأسمالي للشركات، مما يعكس أن الشركات الكبيرة لا ترى حاجة إلى زيادة القدرة الإنتاجية. يأتي هذا تزامناً مع تباطؤ سرعة الإنفاق النقدي، أي وتيرة إنفاق النقود بعد طباعتها. الأمر الذي تكرر بكلا اليابان والمنطقة الأوروبية حيث أصبح ضعف الاستثمار واستقرار النمو دون معدل الـ 1% هو المعتاد. والنتيجة هي أن غالبية اقتصادات العالم مازالت بحاجة إلى دعم استثنائي لتحقيق مستويات نمو متوسطة.

قد تكون السياسات الحالية قادرة على تحفيز النمو وبالتالي إعادة معدلات الفائدة إلى مستوياتها الطبيعية، وتجعل من الانخفاضات الحادة في عائدات السندات مؤخراً مجرد ظاهرة تاريخية ليس إلا. في واقع الأمر، ظهرت بعض بوادر النمو منتصف العام 2015 إلى جانب ارتفاع طفيف في توقعات العائدات على المدى الطويل، وخاصة الألمانية والأمريكية. ولكن انعكست تلك الاتجاهات فيما بعد، كما حدث في الكثير من الأحيان، واستمر النمو في ضعفه عاجزاً عن دفع ارتفاعات نسب الدين من إجمالي الناتج المحلي في الاقتصادات المتقدمة إلى عكس اتجاهها. ليبقى السؤال هنا كيف ستؤثر آلية الفائدة السلبية على اقتصادات العالم؟! وهنا يصبح لدينا سيناريوهان متوقعان لمثل هذا الأمر.

السيناريو الأول: حرب عملات.

دفع الفائدة إلى مستويات منخفضة وربما سلبية سيحث المستثمرين على الإقتراض والإنفاق، ولكنه ينطوي على خطر أكبر وهو تزايد عمليات تسييل السندات والحساب الإدخارية (أي تحويلها إلى سيولة نقدية). رداً على هذا، ستبذل الحكومات قصارى جهدها لتقنين عمليات الحصول على الأموال. وقد تجسد هذا الأمر مطلع العام 2015، حين حظر بنك JPMorgan  بعض عملائه من سحب الأموال من صناديق الإيداعات. كما وضعت البنوك السويسرية حد أقصى لصرف المعاشات التقاعدية، وفي الدنمارك تم تشريع بعض القوانين التي تلزم المحلات التجارية برفض التعاملات النقدية، أما استراليا فقامت بفرض  0.05%  ضريبة على بعض الإيداعات، أيضاً تم خفض الحد الأقصى للسحب النقدي من البنوك الفرنسية من 3 ألاف إلى ألف يورو فقط. ففي وقتنا الحالي ومع تعدد الإمكانيات التقنية، بات من الصعب أن تقوم البنوك المركزية باستمرار دفع الفائدة دون المستويات الصفرية، حيث قد يلجأ المدخرين إلى إدخار رؤوس الأموال بعيداً عن البنوك، وهو ما يجعل الفائدة السلبية بلا جدوى.

السيناريو الثاني: طباعة النقود.

طباعة النقود أو مصطلح الـ Helicopter Money يعني طباعة البنوك المركزية لكميات ضخمة من الأموال وضخها في الاقتصاد بأكثر من أداة وبشكل مباشر بهدف تحفيز الإنفاق، وبالتالي ارتفاع التضخم. وقد ظهر هذا المصطلح بقوة بعد الخطاب التاريخي الذي ألقاه محافظ الفيدرالي الأمريكي السابق، بن برنانكي، في العام 2002 والذي أكد فيه على أن خطر الركود بات مستحيلاً. فقد صرح "البنوك المركزية في الوقت الحالية قادرة على طباعة كميات غير محدودة من العملة، وإسقاطها من طائرات الهليكوبتر إن اقتضى الأمر".

أما صناع القرار فقد لجأوا إلى كل الحلول التي تطرق إليها برنانكي في هذا الخطاب، ما عدا طباعة النقود. وبالحديث عن الواقع الاقتصادي، فمثل هذا الأمر سوف يتطلب تضافر جهود السياسات المالية والنقدية معاً، حيث تقوم السلطات بخفض الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي باستخدام الأموال المطبوعة. وهنا يتم إعادة استثمار إيرادات الضرائب مما سيعمل على تسريع وتيرة إنفاق النقود التي تطرقنا إليها سابقاً. الأمر الذي من المقرر أن يدعم ارتفاع التضخم بنسبة قد تصل إلى 3%، وبذلك تصبح مستويات الدين الحالية أقل عبئاً على الحكومات. وهذا ما يتوقعه بعض خبراء الاقتصاد.

من الآثار الجانبية للفائدة السلبية هي أنها تدفع أصحاب الدخل الثابت كالمتقاعدين وغيرهم ممن يحتاجون لزيادة إدخاراتهم وأموالهم إلى الهروب من العائدات المنخفضة بحثاً عن أخرى مرتفعة سواء سندات أو أسهم. وهنا يتوقع الخبراء أن يتسبب هذا التدفق الهائل من الأموال في خلق فقاعة أصول.

وفي بيانه لعام 2015، شدد بنك التسويات الدولية BIS على هذه المخاوف مشيراً إلى أن سياسة خفض الفائدة تجعل الأسواق أكثر عُرضة لعدم الاستقرار والضعف المزمن، كما أنها ستؤدي لا محالة إلى أحد السيناريوهات المتطرفة التالية:

  • تدفق هائل لرؤوس الأموال إلى الملاذات الآمنة (تسونامي الملاذ الآمن).

في الوقت الذي انخفضت فيه معدلات الفائدة بالبلدان التي اعتقد المستثمرون بأنها ملاذ آمن لإيداع أموالها، استمر ارتفاع الفائدة في عدد من البلاد الأخرى، كان على رأسها الاقتصادات الناشئة والاقتصادات الأوروبية. ومع استمر هذا التفاوت، فقد نشهد تدفقات هائلة لرؤوس الأموال إلى العائدات المرتفعة، مما قد يدفع بعائدات السندات اليابانية، الألمانية والأمريكية إلى مستويات أكثر انخفاضاً. ولكن بالنظر إلى استمرار معاناة المنطقة الأوروبية في الحفاظ على وحدتها الاقتصادية والسياسية، صراعات اليابان في التغلب على مشاكلها الديمجرافية وأعباء الديون فسيكون الدولار الأمريكي هو الأقل تضرراً من هذا السيناريو حيث نجح بالفعل في اجتذاب أغلب تدفقات رؤوس الأموال حول العالم، مسجلاً ارتفاعات قوية أمام العملات الأخرى.

لن يتضرر حاملي أو مستثمري الدولار بتلك الارتفاعات، لكنها ستكون عبئاً على الأفراد والاقتصادات التي تحتاج إلى العملة الصعبة في تعاملاتها، أو تلك الاقتصادات المدينة بالدولار الأمريكي والتي ستجد صعوبة بالغة في التخلص من عبء الدين. وقد واجهت العديد من الاقتصادات النامية تلك الأعباء، حيث وصلت أحجام الدين إلى ما يعادل 29 تريليون دولار أمريكي منتصف العام 2015. وهنا ستلجأ الدول القادرة على تحكم في قيمة عملتها المحلية إلى آلية الفائدة السلبية، أما الدول الأخرى فسوف تعاني من انخفاض قيمة العملة بشكل حاد وهو ما يؤدي في النهاية إلى تضخم مفرط.

وبالنظر إلى حقيقة أن أغلب البنوك وشركات التأمين تضم ديون سيادية ضمن رؤوس أموالها، فذلك يجعلها أكثر خضوعاً لتلك التغيرات. وفي منطقة اليورو على وجه الخصوص، قد تلجأ البنوك إلى استخدام سندات أيُ من الدول الأعضاء كرأس مال خالٍ من المخاطر. لكن، هل يمكن أن تتساوى العائدات الإيطالية مع نظيراتها الألمانية على سبيل المثال؟ في الواقع يبدو هذا الأمر في غاية الصعوبة خاصة في أوقات الأزمة. وقد يؤدي هذا التفاوت إلى تقلبات قوية لأرباح البنوك وقيمتها السوقية.

ويؤكد الخبراء على أنه في هذا العالم الافتراضي الذي أصبحنا نعيش فيه، حيث أصبحت عائدات السندات الآمنة متقلبة وغير مستقرة، بات يُفضل الاستثمار في سوق العملات عوضاً عن استثمار الأصول. على سبيل المثال، ففي حال تراجع عائدات السندات الأمريكية لأجل 10 سنوات إلى النسبة السالبة -1%، فيما ارتفعت قيمة الدولار الأمريكي 10%، هنا يكون فارق الربح 9%، وهو ما يؤكد على أفضلية الاستثمار في العملات.

  • تكثيف عمليات البيع في الأسواق المالية.

تعتبر الأسواق المالية من أشهر مجالات الاستثمار، سواء أسهم أو سندات. لكن في حالة وجود فقاعة بسوق السندات (نتيجة ارتفاع التضخم في ظل تطبيق طباعة النقود أو helicopter money على سبيل المثال، مما ينتج عنه رفع معدل الفائدة) فسوف تتضاءل عمليات الشراء وفي هذه الحالة، سوف تكون عائدات السندات وأرباح الأسهم غير مُجدية، لذا سيكون الاستثمار في سوق الأسهم والسندات أشبه بالخسارة.

هذا السيناريو يعني أن عائدات السندات ذات التصنيف المرتفع قد تُظهر بعض التباطؤ بالمقارنة مع عائدات السندات ذات التصنيف المنخفض، كما حدث مع السندات الألمانية منتصف العام 2015. فقد سجلت العائدات على سندات الـ 10 سنوات ارتفاع تاريخي من 4 إلى 75 نقطة، مما يعكس التقلبات القوية في حركة السوق.

  • استحواذ الأسهم على مكانة السندات كمجال آمن للاستثمار.

ظهور فقاعة بسوق السندات سوف يدفع بالمستثمرين إلى سوق الأسهم والتي سوف تتميز حينها بالعائد المرتفع. وقد تواصل أسواق الأسهم ارتفاعاتها بينما يتجه الاقتصاد العالمي إلى مرحلة جديدة من الركود. بهذا سوف ترتفع أسعار الأسهم المميزة بوتيرة قوية دون أي اعتبارات.

  • هروب المستثمرون إلى الذهب والعملات الرقمية.

يُعرف الذهب بكونه ملاذ آمن حيث لا يخضع للتغيرات التي تتعرض لها العملات، ولا تستطيع الحكومات أو صناع القرار التحكم في أسعار الذهب، مما يجعله مقصداً للمستثمرين في وقت الأزمات. بالتالي، فإن ارتفاع التضخم، فقاعة أسواق السندات أو أية صدمات قد تهدد الاستقرار الاقتصادي أو المالي تدفع المستثمرين إلى شراء الذهب. كما يظل الذهب الخيار الأفضل للاستثمار عند المقارنة مع الفائدة السلبية. كذلك الحال مع العملات الرقمية (مثل عملة البيتكوين) والتي أصبحت مؤخراً من أشهر بدائل الاستثمار هرباً من معدلات الفائدة السالبة أو استثمار يحفه مخاطر أقوى محتملة.


قسم أبحاث السوق

المتداول العربي 


large image
الندوات و الدورات القادمة
large image