لماذا طغت الأحداث السياسية على دور البنوك المركزية في التأثير على الأسواق؟

لماذا طغت الأحداث السياسية على دور البنوك المركزية في التأثير على الأسواق؟

لطالما كانت تحركات وقرارات البنوك المركزية هي الشاغل الأول للمستثمرين حول العالم وخاصة منذ الأزمة العالمية في العام 2008 حينما كانت سياسات البنوك هي الأمل الوحيد المتبقى لإعادة الاقتصاد إلى مستوياته السابقة. إلا أنه في الآونة الأخيرة أصبح المستثمرين أكثر اهتماماً بالتطورات السياسية كما حدث مع الاستفتاء البريطاني، الانتخابات الأمريكية وانتخابات المنطقة الأوروبية. ويمكن القول أن الأحداث السياسية كان لها الدور الأكبر في تحركات الأسواق خلال الفترات الأخيرة الماضية، وقد تجاوز تأثير البنوك المركزية وقراراتها على الأسواق. لكن لماذا أصبحت الأسواق تهتم بالمجريات السياسية أكثر من سياسات البنوك المركزية؟

أولاً، استنفاذ البنوك المركزية لجميع الأدوات المتاحة. حرصت البنوك المركزية على بذل قصارى جهدها لدعم النمو الاقتصادي منذ اندلاع الأزمة العالمية. وجاءت تلك الجهود على شكل برامج التيسير النقدي، خفض الفائدة وتطبيق إصلاحات هيكلية من شأنها تشجيع الإقراض والاستثمار. استمرت تلك السياسات لما يقرب من عِقد ومازالت البنوك المركزية عاجزة عن تحقيق أهداف للتضخم والنمو. لذا، فإن الأسواق الآن تعلق آمالها على الحكومات في تقديم الدعم اللازم للاقتصاد، حيث أن تضافر جهود السياسات المالية والنقدية يعزز فرص الاقتصاد في النمو بوتيرة أسرع، أقوى وأكثر استدامة. هذا، ومع تأكيد بعض البنوك المركزية مؤخراً (كالمركزي الأوروبي، الاحتياطي الاسترالي، بنك إنجلترا، الاحتياطي النيوزلندي وبنك اليابان) على اقتراب السياسة النقدية من حدها الأقصى، باتت الأسواق في انتظار تدخل الحكومات وتحفيز النمو الاقتصادي المتراخي.

ثانياً، تهديد الأوضاع السياسية لاستقلالية البنوك المركزية. تتميز البنوك المركزية باستقلاليتها، حيث يكون هدفها الرئيسي هو إتباع السياسات الملائمة للوضع الاقتصادي، سواء بتقديم الدعم أو حماية الاقتصادي من النمو المفرط، وليس اجتذاب الرأي العام كقادة السياسة. ولكن الأوضاع الأخيرة شكلت ضغوطاً على الحكومات للتدخل ومعاونة البنوك المركزية في دعم الاقتصاد، مما ساهم في محو الخطوط الفاصلة بين كلا السياسات المالية والنقدية. ويمكن القول أن البنوك المركزية أصبحت تحت وطأة التدخل السياسي، ففي الولايات المتحدة أعلن الرئيس المنتخب دونالد ترامب عن رغبته في إقالة جانيت يلين من منصبها كمحافظ للفيدرالي الأمريكي، واصفاً إدارتها بالفاشلة. كذلك واجه المركزي الأوروبي ومحافظه ماريو دراجي العديد من الانتقادات بسبب سياساته التوسعية وإضرارها ببعض اقتصادات دول المنطقة الأوروبية، وخاصة ألمانيا. أما بنك إنجلترا فكان محل انتقاد واسع، وقد ازداد الأمر سوءاً بعد الاستفتاء على عضوية الإتحاد الأوروبي. وهو ما دفع البنوك المركزية إلى تبنى موقف دفاعي عن سياساتها مع التأكيد على استخدام كافة الأدوات المتاحة لديها لتقديم ما يكفي من الدعم للنمو للاقتصادي.

ثالثاً، سيطرة الأوضاع السياسية على تحركات الأسواق أكثر من سياسات البنوك المركزية. تؤثر التوجهات السياسية على مجريات الاقتصاد مثل تدفقات رؤوس المال والنشاط التجاري للدولة، وبالتالي تنعكس على الأداء الاقتصادي العام. وفي هذا السياق، يكون أيضاً للتوجهات الحكومية (السياسية) تأثير على حجم الإنفاق والاستثمار، ومن ثَم على قيمة العملة المحلية. ففي الوقت الذي ترتفع فيه الثقة حيال الوضع الاقتصادي، يؤدي ذلك إلى ارتفاع معدل الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار حيث يزداد الطلب على العملة وبالتالي قيمتها. والعكس تماماً يحدث عندما يفقد المستثرون الثقة في الاقتصاد. ونستدل على ذلك من خلال الاقتصاد البريطاني، حينما انخفض حجم الاستثمار بعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء الأخير في صالح الخروج من الإتحاد الأوروبي، فقد رأى المستثمرون ضرورة التمهل حتى تتضح معالم الوضع الاقتصادي قبل البدء في أية استثمارات جديدة. كما أن التوجه إلى سياسة الحماية الاقتصادية وتقنين النشاط التجاري، يكون له تأثير سلبي على قيمة العملة وقد يكون عبئاً على النمو الاقتصادي بوجهٍ عام. وهو ما يحدث بالفعل في الولايات المتحدة حالياً، حيث تبقى الأسواق مشتتة حيال تداعيات السياسات الحمائية التي تعتزم حكومة ترامب تطبيقها. هذا بالإضافة إلى تأثير الحركة السياسية على استقرار الأسواق المالية. فعلى سبيل المثال، استقبلت الأسواق المالية خطط ترامب بخفض الضرائب وإلغاء القيود التنظيمية على نحوٍ إيجابي، ولم تكن الأسواق المحلية فقط، بل شهدت الأسواق المالية على الصعيد العالمي ارتفاعات قوية. ولكن تبقى تلك الارتفاعات مرهونة باستمرار الثقة في التوجهات السياسية، وقد تعكس اتجاهها في حال عاد الغموض ليسيطر على تطلعات الوضع السياسي.

رابعاً، عزوف المستثمرون عن المخاطرة مع ارتفاع حالة عدم اليقين. انتقال السلطة من حكومة إلى أخرى هو أمر معتاد، إلا أن ظهور تيارات سياسية جديدة واعتلاءها السلطة جعل الأسواق في ترقب حذر لتوجهات الحكومات المستقبلية وانعكاساتها على الأوضاع الاقتصادية. كما اضطرت البنوك المركزية إلى الخضوع لتلك التغيرات، فإذا نظرنا إلى الفيدرالي الأمريكي بعد تولي ترامب، نرى أنه أشار لأكثر من مرة إلى مراقبته لسياسات ترامب وتداعياتها على الوضع الاقتصادي لإعادة تقييم الأداء الاقتصادي ومدى تأثره بتلك السياسات، قبل استكمال عملية التشديد النقدي. أما بنك إنجلترا فقد لجأ إلى خفض الفائدة لاحتواء  المخاطر المحتملة للخروج من الإتحاد الأوروبي على النمو الاقتصادي، ومع تغير المسار الاقتصادي أعلن البنك عن موقفه الحيادي مؤكداً على استعداده لتحريك السياسة النقدية في كلا الاتجاهين..طبقاً لمتطلبات الوضع الاقتصادي.

في النهاية وعلى الرغم من سيطرة الأحداث السياسية على تحركات الأسواق مؤخراً، إلا أن هذا لا يعني أن دور البنوك المركزية قد اندثر بشكل نهائي. فكما ذكرنا سابقاً، تعاون كلا السياستين المالية والنقدية يكون له تأثير أقوى على النمو الاقتصادي. هذا، وما إن تهدأ توترات الحياة السياسية، سوف تعود البنوك المركزية مرة جديدة إلى صدارة محركات الأسواق العالمية. 


large image
الندوات و الدورات القادمة
large image